فصل: الفائدة الرابعة: تضمنت الفاتحة ذكر خمسة أسماء لله:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الفائدة الثالثة: الملك عبارة عن القدرة:

الملك عبارة عن القدرة، فكونه مالكًا وملكًا عبارة عن القدرة، هاهنا بحث: وهو أنه تعالى إما أن يكون ملكًا للموجودات أو للمعدومات، والأول: باطل، لأن إيجاد الموجودات محال فلا قدرة لله على الموجودات إلا بالإعدام، وعلى هذا التقرير فلا مالك إلا للعدم، والثاني: باطل أيضًا؛ لأنه يقتضي أن تكون قدرته وملكه على العدم ويلزم أن يقال: إنه ليس لله في الموجودات مالكية ولا ملك وهذا بعيد.
والجواب إن الله تعالى مالك الموجودات، وملكها، بمعنى أنه تعالى قادر على نقلها من الوجود إلى العدم، أو بمعنى أنه قادر على نقلها من صفة إلى صفة، وهذه القدرة ليست إلا لله تعالى، فالملك الحق هو الله سبحانه وتعالى، إذا عرفت أنه الملك الحق فنقول: إنه الملك ليوم الدين وذلك لأن القدرة على إحياء الخلق بعد موتهم ليست إلا لله، والعلم بتلك الأجزاء المتفرقة من أبدان الناس ليس إلا لله، فإذا كان الحشر والنشر والبعث والقيامة لا يتأتى إلا بعلم متعلق بجميع المعلومات وقدرة متعلقة بجميع الممكنات، ثبت أنه لا مالك ليوم الدين إلا الله، وتمام الكلام في هذا الفصل متعلق بمسألة الحشر والنشر.
فإن قيل: إن المالك لا يكون مالكًا للشيء إلا إذا كان المملوك موجودًا، والقيامة غير موجودة في الحال، فلا يكون الله مالكًا ليوم الدين، بل الواجب أن يقال: {مالك يوم الدين}، بدليل أنه لو قال: أنا قاتل زيد، فهذا إقرار، ولو قال أنا قاتل زيدًا بالتنوين كان تهديدًا ووعيدًا.
قلنا: الحق ما ذكرتم، إلا أن قيام القيامة لما كان أمرًا حقًا لا يجوز الإخلال في الحكمة جعل وجود القيامة كالأمر القائم في الحال الحاصل في الحال، وأيضًا من مات فقد قامت قيامته فكانت القيامة حاصلة في الحال فزال السؤال.

.الفائدة الرابعة: تضمنت الفاتحة ذكر خمسة أسماء لله:

أنه تعالى ذكر في هذه السورة من أسماء نفسه خمسة: الله، والرب، والرحمن والرحيم، والمالك.
والسبب فيه كأنه يقول: خلقتك أولًا فأنا إله.
ثم ربيتك بوجوه النعم فأنا رب، ثم عصيت فسترت عليك فأنا رحمن؛ ثم تبت فغفرت لك فأنا رحيم، ثم لابد من إيصال الجزاء إليك فأنا {مالك يوم الدين}.
فإن قيل: إنه تعالى ذكر الرحمن الرحيم في التسمية مرة واحدة، وفي السورة مرة ثانية فالتكرير فيهما حاصل وغير حاصل في الأسماء الثلاثة فما الحكمة؟
قلنا: التقدير كأنه قيل: أذكر أني إله ورب مرة واحدة، وأذكر أني رحمن رحيم مرتين لتعلم أن العناية بالرحمة أكثر منها بسائر الأمور، ثم لما بين الرحمة المضاعفة فكأنه قال: لا تغتروا بذلك فإني {مالك يوم الدين}، ونظيره قوله تعالى: {غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب ذِى الطول} [غافر: 3].

.الفائدة الخامسة: مذهب القدرية: في خلق أعمال العباد:

قالت القدرية: إن كان خالق أعمال العباد هو الله امتنع القول بالثواب والعقاب والجزاء؛ لأن ثواب الرجل على ما لم يعمله عبث، وعقابه على ما لم يعمله ظلم، وعلى هذا التقدير فيبطل كونه مالكًا ليوم الدين، وقالت الجبرية: لو لم تكن أعمال العباد بتقدير الله وترجيحه لم يكن مالكًا لها، ولما أجمع المسلمون على كونه مالكًا للعباد ولأعمالهم؛ علمنا أنه خالق لها مقدر لها، والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {مالك يَوْمِ الدين} قرأ محمد بن السَّمَيْقَع بنصب مالك؛ وفيه أربع لغات: مالِك ومَلِك ومَلْك مخففة من مَلِك ومَلِيك؛ قال الشاعر:
وأيامٍ لنا غُرٍّ طِوال ** عصينا المَلْك فيها أن نَدينا

وقال آخر:
فاقنعْ بما قَسَم المليكُ فإنّما ** قَسَم الخلائقَ بيننا علاّمُها

الخلائق: الطبائع التي جُبِل الإنسان عليها.
وروي عن نافع إشباع الكسرة في: {مَلِك} فيقرأ: {مَلِكِي} على لغة من يشبع الحركات، وهي لغة للعرب ذكرها المهدوي وغيره.

.فائدة: اختلاف العلماء أيّما أبلغ: ملِك أو مالك؟

اختلف العلماء أيّما أبلغ: ملِك أو مالك؟ والقراءتان مَرْوِيتَان عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر.
ذكرهما الترمذي؛ فقيل: {مَلِك} أعمّ وأبلغ من: {مالك} إذ كل مَلِك مالك، وليس كل مالك مَلِكا؛ ولأن أمر الملِك نافذ على المالك في مِلْكه، حتى لا يتصرف إلا عن تدبير الملك؛ قاله أبو عبيدة والمبرد.
وقيل: {مالك} أبلغ؛ لأنه يكون مالكًا للناس وغيرهم؛ فالمالك أبلغ تصرُّفًا وأعظم؛ إذ إليه إجراء قوانين الشرع، ثم عنده زيادة التّملك.
وقال أبو عليّ: حكى أبو بكر بن السراج عن بعض من اختار القراءة ب: {ملك} أن الله سبحانه قد وصف نفسه بأنه مالك كلّ شيء بقوله: {رَبِّ العالمين} فلا فائدة في قراءة من قرأ: {مالك} لأنها تكرار.
قال أبو عليّ: ولا حجة في هذا؛ لأن في التنزيل أشياء على هذه الصورة، تقدُّم العام ثم ذِكر الخاص كقوله: {هُوَ الله الخالق البارئ المصور} [الحشر: 24] فالخالق يعمّ.
وذكر المصوّر لما فيه من التنبيه على الصنعة ووجود الحكمة؛ وكما قال تعالى: {وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4] بعد قوله: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} [البقرة: 3].
والغيب يعم الآخرة وغيرها؛ ولكن ذكرها لعظمها، والتنبيه على وجوب اعتقادها، والردّ على الكفرة الجاحدين لها؛ وكما قال: {الرحمن الرحيم} فذكر {الرحمن} الذي هو عام وذكر {الرحيم} بعده، لتخصيص المؤمنين به في قوله: {وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيمًا} [الأحزاب: 43].
وقال أبو حاتم: إن مالكًا أبلغ في مدح الخالق من ملِك، وملك أبلغ في مدح المخلوقين من مالك؛ والفرق بينهما أن المالك من المخلوقين قد يكون غير ملك وإذا كان الله تعالى مالكًا كان ملكًا، واختار هذا القول القاضي أبو بكر بن العربي وذكر ثلاثة أوجه؛ الأوّل: أنك تضيفه إلى الخاص والعام؛ فتقول: مالك الدار والأرض والثوب، كما تقول: مالك الملوك.
الثاني: أنه يطلق على مالك القليل والكثير؛ وإذا تأمّلت هذين القولين وجدتهما واحدًا.
والثالث: أنك تقول: مالك المُلْك؛ ولا تقول: مِلك المُلْك.
قال ابن الحصار: إنما كان ذلك لأن المراد من مالك الدلالة على المِلك بكسر الميم- وهو لا يتضمن المُلْك بضم الميم وملِك يتضمن الأمرين جميعًا فهو أوْلى بالمبالغة.
ويتضمن أيضًا الكمال، ولذلك استحق الملك على من دونه؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: {إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم} [البقرة: 247]، ولهذا قال عليه السلام: «الإمامة في قريش» وقريش أفضل قبائل العرب، والعرب أفضل من العَجَم وأشرف.
ويتضمن الاقتدار والاختيار، وذلك أمر ضروري في المَلِك، إن لم يكن قادرًا مختارًا نافذًا حكمه وأمره، قهره عدوّه وغلبه غيره وازدرته رعيته؛ ويتضمن البطش والأمر والنهي والوعد والوعيد؛ ألا ترى إلى قول سليمان عليه السلام: {مَا لِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغائبين لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا} [النمل: 20 21] إلى غير ذلك من الأمور العجيبة والمعاني الشريفة التي لا توجد في المالك.
قلت: وقد احتج بعضهم على أن مالكًا أبلغ لأن فيه زيادة حرف؛ فلقارئه عشر حسنات زيادة عمن قرأ ملك.
قلت: هذا نظر إلى الصيغة لا إلى المعنى، وقد ثبتت القراءة بملك، وفيه من المعنى ما ليس في مالك، على ما بينا والله أعلم.

.فائدة حكم التسمي بملك الأملاك:

لا يجوز أن يتسمَى أحد بهذا الاسم ولا يدعى به إلا الله تعالى؛ روى البخاريّ ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض». وعنه أيضًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن أَخْنَع اسم عند الله رجل تسمّى ملك الأملاك زاد مسلم لا مالك إلا الله عزّ وجلّ».
قال سفيان: مثل: شاهانْ شَاهْ. وقال أحمد بن حنبل: سألت أبا عمرو الشيبانيّ عن اخنع؛ فقال: أوْضع.
وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه رجل كان يسمى ملك الأملاك لا ملك إلا الله سبحانه». قال ابن الحصار: وكذلك: {مالك يَوْمِ الدين} و: {مالك الملك} لا ينبغي أن يُختلف في أن هذا محرّم على جميع المخلوقين كتحريم ملك الأملاك سواء، وأما الوصف بمالك وملك. فيجوز أن يوصف بهما من اتصف بمفهومهما؛ قال الله العظيم: {إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة: 247].
وقال صلى الله عليه وسلم: «ناس من أمتي عُرِضُوا عليَّ غُزاةً في سبيل الله يركبون ثَبَجَ هذا البحر ملوكا على الأسِرّة أو مثل الملوك على الأسرة».

.فائدة في كيف قال الله: {مالك يَوْمِ الدين} ويوم الدين لم يوجد بعدُ:

إن قال قائل: كيف قال: {مالك يَوْمِ الدين} ويوم الدين لم يوجد بعدُ، فكيف وصف نفسه بملك ما لم يوجده؟ قيل له: اعلم أن مالكًا اسم فاعل من ملك يملك، واسم الفاعل في كلام العرب قد يضاف إلى ما بعده وهو بمعنى الفعل المستقبل ويكون ذلك عندهم كلامًا سديدًا معقولا صحيحًا؛ كقولك: هذا ضارب زيد غدا؛ أي سيضرب زيدًا.
وكذلك: هذا حاجّ بيت الله في العام المقبل، تأويله سيحج في العام المقبل؛ أفلا ترى أن الفعل قد يُنسب إليه وهو لم يفعله بعدُ، وإنما أريد به الاستقبال؛ فكذلك قوله عزّ وجلّ: {مالك يَوْمِ الدين} على تأويل الاستقبال، أي سيملك يوم الدِّين أو في يوم الدين إذا حضر.
ووجه ثان: أن يكون تأويل المالك راجعًا إلى القدرة؛ أي إنه قادر في يوم الدين، أو على يوم الدين وإحداثه؛ لأن المالك للشيء هو المتصرف في الشيء والقادر عليه؛ والله عزّ وجلّ مالك الأشياء كلها ومصرفها على إرادته، لا يمتنع عليه منها شيء.
والوجه الأوّل أمَسُّ بالعربية وأنفذ في طريقها؛ قاله أبو القاسم الزجاجي.
ووجه ثالث: فيقال لِمَ خصص يوم الدِّين وهو {مالك يوم الدين} وغيره؟ قيل له: لأن في الدنيا كانوا منازعين في الملك، مثل فرعون ونمروذ وغيرهما، وفي ذلك اليوم لا ينازعه أحد في ملكه، وكلهم خضعوا له، كما قال تعالى: {لِّمَنِ الملك اليوم} [غافر: 16] فأجاب جميع الخلق: {لِلَّهِ الواحد القهار} فلذلك قال: {مالك يوم الدين}؛ أي في ذلك اليوم لا يكون مالك ولا قاضٍ ولا مُجازٍ غيره؛ سبحانه لا إله إلا هو.

.فائدة: صفات الذات وصفات الأفعال:

إنْ وُصِف الله سبحانه بأنه مَلِك كان ذلك من صفات ذاته، وإن وُصف بأنه مالك كان ذلك من صفات فعله.

.فائدة: في حد اليوم:

اليوم: عبارة عن وقت طلوع الفجر إلى وقت غروب الشمس، فاستعير فيما بين مبتدأ القيامة إلى وقت استقرار أهل الدارين فيهما.
وقد يطلق اليوم على الساعة منه؛ قال الله تعالى: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3].
وجَمْعُ يومٍ أيام؛ وأصله أَيْوَام فأدغم؛ وربما عبّروا عن الشدة باليوم، يقال: يوم أيْوَم، كما يقال: ليلة لَيْلاَء.
قال الراجز:
نِعْمَ أخو الهيجاء في اليوم اليمي

وهو مقلوب منه، أخَّر الواو وقدّم الميم ثم قلبت الواو ياء حيث صارت طَرَفا؛ كما قالوا: أدْلٍ في جمع دَلْوٍ.